فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة الليل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى}
أي: يغشى الشمس أو النهار بظلمته، فيذهب بذاك الضياء {وَالنَّهَارِ إِذَا تجلى} أي: ظهر بزوال الليل أو تبينَ بطلوع الشمس.
قال الإمام: والتعبير في الغشيان بالمضارع، لما سبق من عروض الظلمة لأصل النور الذي هو أكمل مظاهر الوجود، حتى عبر به عن الوجود نفسه. أما تجلي النهار فهو لازم له. لهذا عبر عنهُ بالماضي كما سبق بيانه.
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى} أي: والقادر الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل نوع له توالد. فـ: {مَا} موصولة بمعنى من، أوثرت لإرادة الوصفية، كما تقدم.
قال الإمام: وإنما أقسم بذاته بهذا العنوان، لما فيه من الإشعار بصفة العلم المحيط بدقائق المادة وما فيها، والإشارة إلى الإبداع في الصنع؛ إذ لا يعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى، في الحيوان، يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، كما يزعم بعض الجأحدين، فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة إلى كون الذكر أو كون الأنثى، فتكوين الولد من عناصر واحدة تارةً ذكراً وتارةً أنثى، دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، محكم فيما يضع ويصنع. انتهى.
وقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} جواب القسم. أو هو مقدر، كما مر تفصيلهُ. أي: مختلف في جزائه. ومفرَّق في عاقبته. فمنه ما يسعد به الساعي ومنهُ ما يشقى به، فشتان ما بينهما، كما فصله بعد. وشتى إما جمع شتيت أو شت، بمعنى متفرق، والمصدر المضاف يفيد العموم. فيكون جمعاً معنى. ولذا أخبر عنه بـ: شتى وهو جمع. وفيه وجه آخر وهو أنه مفرد مصدر مؤنث كذكرى وبشرى. فهو بتقدير مضاف، أو مؤول، أو بجعله عين الافتراق، مبالغة.
قال الرازيّ: ويقرب من هذه قوله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]، وقوله: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]، وقوله: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].
وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى واتقى} تفصيل لتلك المساعي الشتى، وتبيين لمآلها ما تقدم.
قال الرازيّ: وفي {أَعْطَى} وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب، وفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوّهم، كما كان يفعله أبو بكر، سواء كان ذلك واجباً أو نفلاً وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 3]، فإن المراد منه كل ما كان إنفاقاً في سبيل الله، سواء كان واجباً أو نفلاً. وقد مدح الله قوماً فقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الْإِنْسَاْن: 8]، وقال في آخر هذه السورة {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَ ى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} [الليل: 17- 18] الآية.
وثانيهما: أن قوله: {أَعْطَى} يتناول إعطاء حقوق المال، وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى. يقال: فلان أعطى الطاعة وأعطى السعة. انتهى.
إلا أن الأول هو المناسب للإعطاء؛ لأن المعروف فيه تعلقه بالمال خصوصاً وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال {واتقى} أي: ربه فاجتنب محارمه.
{وَصَدَّقَ بالحسنى} أي: بالمثوبة الحسنى.
قال قتادة: أي: صدق بموعود الله الحسن. وهو بمعنى قول مجاهد: إنها الجنة كما قال تعالى: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} [الشورى: 23]، فسمى مضاعفة الأجر حسنى.
وقال القاشاني: أي: صدق بالفضيلة الحسنى التي هي مرتبة الكمال بالإيمان العلميّ، إذ لو لم يتيقن بوجود كمال كامل لم يمكنه الترقي.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} أي: فسنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى، التي هي السلوك في طريق الحق، لقوة يقينه.
قال الشهاب: ولما كانت مؤدية إلى اليسر، وهو الأمر السهل الذي يستريح به الناس وصفت بأنها يسرى، على أنه استعارة مصرحة أو مجاز مرسل أو تجوّز في الإسناد.
{وَأَمَّا مَن بَخِلَ} أي: بالنفقة في سبيل الله، ومنع ما وهب الله له من فضله من صرفه في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها {واستغنى} أي: عن ربه فلم يرغب إليه بالعمل له بطاعته بالزيادة فيما خوّله، أو استغنى بماله عن كسب الفضيلة، وعمه به عن الحق.
{وَكَذَّبَ بالحسنى} أي: بوجود المثوبة للحسنى لمن آمن بالحق، لاستغنائه بالحياة الدنيا واحتجابه بها عن عالم الآخرة.
{فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} أي: للطريقة العسرى المؤدية إلى الشقاء الأبديّ.
قال الإمام: الخطة العسرى هي الخطة التي يحط فيها الْإِنْسَاْن من نفسه، ويغض من حقها وينزل بها إلى حضيض البهيمية، ويغمسها في أوحال الخطيئة. وهي أعسر الخطتين على الْإِنْسَاْن، لأنه لا يجد معيناً عليها، لا من فطرته ولا من الناس.
{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} أي: وما يفيده ماله الذي تعب في تحصيله، وأفنى عمره في حفظه وبطر الحق لأجله، إذا هلك، من قولهم: تردى من الجبل وفي الهوة، وفي التعبير به إشارة إلى أنه بما قدمهُ من أعماله الخبيثة، هو المهلك والموقع لنفسه. وهو الحافر على حتفه بظلفه. و{مَا} نافية أو استفهام في معنى الإنكار. وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} استئناف مقرر لما قبله، أي: علينا بموجب قضائنا المبنيّ على الحكم البالغة، حيث خلقنا الخلق للإصلاح في الأرض، أن نبين لهم طريق الهدى ليجتنبوا مواقع الردى. وقد فعل سبحانه ذلك بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والتمكين من الاستدلال والاستبصار، بخلق العقل وهبة الاختيار.
{وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ والأولى} أي: ملكاً وخلقاً، فلا يضرنا توليكم عن الهدى؛ وذلك لغناه تعالى المطلق، وتفرده بملك ما في الدارين، وكونه في قبضة تصرفه، لا يحول بينهُ وبينهُ أحد، ولا يحصله أحد، حتى يضر عدم اهتدائه أو ينفع اهتداؤه. وفيه إشارة على تناهي عظمته وتكامل قهره وجبروته. وإن من كان كذلك، فجدير أن يبادر لطاعته ويحذر من معصيته؛ ولذا رتب عليه قوله: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} أي: تتلظى وتتوهج، وهي نار الآخرة.
{لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَ ى الَّذِي كَذَّبَ} أي: بالحق الذي جاءه {وتولى} أي: عن آيات ربه وبراهينها التي وضح أمرها وبهر نورها، عناداً وكفراً.
{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَ ى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} أي: ينفق ماله في سبيل الخير، {يتزكى} عن رجس البخل ودنس الإمساك.
{وَمَا لِأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} أي: من يد يكافئه عليها، أي: لا يؤتيه للمكافأة والمعارضة.
{إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} أي: لكن يؤتيه ابتغاء وجه ربه وطلب مرضاته. لا لغرض آخر من مكافأة أو محمدة أو سمعة. وفي حصر {الأتقى} بالمنقق، على الشريطة المذكورة، عناية عظيمة به، وترغيب شديد في اللحاق به، كيف لا؟ وبالمال قوام الأعمال، ورفع مباني الرشاد وهدم صروح الفساد. وقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يرضى} قال ابن جرير: أي: {ولسوف يرضى} هذا المؤتي ماله في حقوق الله عز وجل، {يتزكى} بما يثيبه الله في الآخرة عوضاً مما أتى في الدنيا في سبيله إذا لقي ربه تبارك وتعالى؛ ففيه وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها، إذ به يتحقق الرضا. وهذا على أن ضمير {يرضى} لـ: {الأتقى} لا للرب.
قال الشهاب: وهو الأنسب بالسياق واتساق الضمائر.
وذهب بعضهم إلى الثاني، ومنهم الأمام، قال: أي: {ولسوف يرضى} الله عن ذلك {الأتقى} الطالب بصفة رضاه، ثم قال: والتعبير بـ: سوف؛ لإفادة أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفي القليل من المال، لأن يبلغ العبد درجة الرضا الإلهيّ.
تنبيه:
قال ابن كثير: ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الايات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها؛ فإن اللفظ لفظ العموم وهو قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَ ى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى وَمَا لِأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى}
ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صدّيقاً تقيّاً كريماً جواداً بذّالاً لأمواله في طاعة مولاهُ ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم من دراهم ودنانير بذلتها ابتغاء وجه ربه الكريم. ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل. ولهذا قال له عروة بن مسعود- وهو سيد ثقيف- يوم صلح الحديبية: أما والله! لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك. وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة. فإذا كان هذا حالهُ مع سادات العرب ورؤساء القبائل، فكيف بمن عداهم؟ وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة: يا عبد الله هذا خير». فقال أبو بكر: يا رسول الله! ما على من يدعى منها ضرورة، فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: «نعم، وأرجو أن تكون منهم». انتهى.
اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة الليل:
{وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى (1)}
التعريف بسورة الليل:
في إطار من مشاهد الكون وطبيعة الإنسان تقرر السورة حقيقة العمل والجزاء. ولما كانت هذه الحقيقة منوعة المظاهر: {إن سعيكم لشتى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}.. وكانت العاقبة كذلك في الآخرة مختلفة وفق العمل والوجهة: {فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى..}.
لما كانت مظاهر هذه الحقيقة ذات لونين، وذات اتجاهين.. كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى}..
{وما خلق الذكر والأنثى}.. وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني.
الدرس الأول: 1- 3 القسم بالليل والنهار والذكر والأنثى:
{والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى.. وما خلق الذكر والأنثى}...
{وَالنَّهَارِ إِذَا تجلى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى (3)}
يقسم الله- سبحانه- بهاتين الآيتين: الليل والنهار. مع صفة كل منهما الصفة المصورة للمشهد. {والليل إذا يغشى}.. {والنهار إذا تجلى}.. الليل حين يغشى البسيطة، ويغمرها ويخفيها. والنهار حين يتجلى ويظهر، فيظهر في تجليه كل شيء ويسفر. وهما آنان متقابلان في دورة الفلك، ومتقابلان في الصورة، ومتقابلان في الخصائص، ومتقابلان في الآثار.. كذلك يقسم بخلقه الأنواع جنسين متقابلين: {وما خلق الذكر والأنثى}.. تكملة لظواهر التقابل في جو السورة وحقائقها جميعا.
والليل والنهار ظاهرتان شاملتان لهما دلالة توحيان بها إيحاء للقلب البشري؛ ولهما دلالة كذلك أخرى عند التدبر والتفكر فيهما وفيما وراءهما. والنفس تتأثر تأثرا تلقائيا بتقلب الليل والنهار. الليل إذا يغشى ويعم، والنهار إذا تجلى وأسفر. ولهذا التقلب حديث وإيحاء. حديث عن هذا الكون المجهول الأسرار، وعن هذه الظواهر التي لا يملك البشر من أمرها شيئا. وإيحاء بما وراء هذا التقلب من قدرة تدير الآونة في الكون كما تدار العجلة اليسيرة! وبما هنالك من تغير وتحول لا يثبت أبدا على حال.
ودلالتهما عند التدبر والتفكر قاطعة في أن هنالك يدا أخرى تدير هذا الفلك، وتبدل الليل والنهار. بهذا الانتظام وهذا الاطراد وهذه الدقة. وأن الذي يدير الفلك هكذا يدير حياة البشر أيضا. ولا يتركهم سدى، كما أنه لا يخلقهم عبثا.
ومهما حاول المنكرون والمضلون أن يلغوا في هذه الحقيقة، وأن يحولوا الأنظار عنها، فإن القلب البشري سيظل موصولا بهذا الكون، يتلقى إيقاعاته، وينظر تقلباته، ويدرك تلقائيا كما يدرك بعد التدبر والتفكر، أن هنالك مدبرا لا محيد من الشعور به، والاعتراف بوجوده من وراء اللغو والهذر، ومن وراء الجحود والنكران!
وكذلك خلقة الذكر والأنثى.. إنها في الأنسان والثدييات الحيوانية نطفة تستقر في رحم. وخلية تتحد ببويضة. ففيم هذا الاختلاف في نهاية المطاف؟ ما الذي يقول لهذه: كوني ذكرا. ويقول لهذه: كوني أنثى؟.. إن كشف هذه العوامل التي تجعل هذه النطفة تصبح ذكرا، وهذه تصبح أنثى لا يغير من واقع الأمر شيئا.. فإنه لم إذا تتوفر هذه العوامل هنا وهذه العوامل هناك؟ وكيف يتفق أن تكون صيرورة هذه ذكرا، وصيرورة هذه أنثى هو الحدث الذي يتناسق مع خط سير الحياة كلها، ويكفل امتدادها بالتناسل مرة أخرى؟
مصادفة؟! إن للمصادفة كذلك قانونا يستحيل معه أن تتوافر هذه الموافقات كلها من قبيل المصادفة.. فلا يبقى إلا أن هنالك مدبرا يخلق الذكر والأنثى لحكمة مرسومة وغاية معلومة. فلا مجال للمصادفة، ولا مكان للتلقائية في نظام هذا الوجود أصلا.
والذكر والأنثى شاملان بعد ذلك للأنواع كلها غير الثدييات. فهي مطردة في سائر الأحياء ومنها النبات.. قاعدة واحدة في الخلق لا تختلف. لا يتفرد ولا يتوحد إلا الخالق سبحانه الذي ليس كمثله شيء..
هذه بعض إيحاءات تلك المشاهد الكونية، وهذه الحقيقة الإنسانية التي يقسم الله- سبحانه- بها، لعظيم دلالتها وعميق إيقاعها. والتي يجعلها السياق القرآني إطارا لحقيقة العمل والجزاء في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى..
الدرس الثاني: 4- 21 سعي الناس شتى مختلف وصفات المؤمنين الإيجابية وصفات الكفار السلبية:
يقسم الله بهذه الظواهر والحقائق المتقابلة في الكون وفي الناس، على أن سعي الناس مختلف وطرقهم مختلفة، ومن ثم فجزاؤهم مختلف كذلك؛ فليس الخير كالشر، وليس الهدى كالضلال، وليس الصلاح كالفساد، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى، وليس من صدق وآمن كمن كذب وتولى. وأن لكل طريقا، ولكل مصيرا، ولكل جزاء وفاقا:
{إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى (4) فَأَمَّا مَن أَعْطَى واتقى (5) وَصَدَّقَ بالحسنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى (8) وَكَذَّبَ بالحسنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى (11)}
{إن سعيكم لشتى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى}..
إن سعيكم لشتى.. مختلف في حقيقته. مختلف في بواعثه. مختلف في اتجاهه. مختلف في نتائجه.. والناس في هذه الأرض تختلف طبائعهم، وتختلف مشاربهم، وتختلف تصوراتهم، وتختلف اهتماماتهم، حتى لكأن كل واحد منهم عالم خاص يعيش في كوكب خاص.
هذه حقيقة. ولكن هناك حقيقة أخرى. حقيقة إجمالية تضم أشتات البشر جميعا. وتضم هذه العوالم المتباينة كلها. تضمها في حزمتين اثنتين. وفي صفين متقابلين. تحت رايتين عامتين: {من أعطى واتقى وصدق بالحسنى}.. و{من بخل واستغنى وكذب بالحسنى}..
من أعطى نفسه وماله. واتقى غضب الله وعذابه. وصدق بهذه العقيدة التي إذا قيل {الحسنى} كانت اسما لها وعلما عليها.
ومن بخل بنفسه وماله. واستغنى عن الله وهداه. وكذب بهذه الحسنى..
هذان هما الصفان اللذان يلتقي فيهما شتات النفوس، وشتات السعي، وشتات المناهج، وشتات الغايات. ولكل منهما في هذه الحياة طريق.. ولكل منهما في طريقه توفيق! {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى.. فسنيسره لليسرى}..
والذي يعطي ويتقي ويصدق بالحسنى يكون قد بذل أقصى ما في وسعه ليزكي نفسه ويهديها. عندئذ يستحق عون الله وتوفيقه الذي أوجبه- سبحانه- على نفسه بإرادته ومشيئته. والذي بدونه لا يكون شيء، ولا يقدر الإنسان على شيء.
ومن يسره الله لليسرى فقد وصل.. وصل في يسر وفي رفق وفي هوادة.. وصل وهو بعد في هذه الأرض. وعاش في يسر. يفيض اليسر من نفسه على كل ما حوله وعلى كل من حوله. اليسر في خطوه. واليسر في طريقه. واليسر في تناوله للأمور كلها. والتوفيق الهادئ المطمئن في كلياتها وجزئياتها. وهي درجة تتضمن كل شيء في طياتها. حيث تسلك صاحبها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في وعد ربه له: ونيسرك لليسرى..
{وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى.. فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى}..
والذي يبخل بنفسه وماله، ويستغني عن ربه وهداه، ويكذب بدعوته ودينه.. يبلغ أقصى ما يبلغه إنسان بنفسه من تعريضها للفساد. ويستحق أن يعسر الله عليه كل شيء، فييسره للعسرى! ويوفقه إلى كل وعورة! ويحرمه كل تيسير! ويجعل في كل خطوة من خطاه مشقة وحرجا، ينحرف به عن طريق الرشاد. ويصعد به في طريق الشقاوة. وإن حسب أنه سائر في طريق الفلاح. وإنما هو يعثر فيتقي العثار بعثرة أخرى تبعده عن طريق الله، وتنأى به عن رضاه.. فإذا تردى وسقط في نهاية العثرات والانحرافات لم يغن عنه ماله الذي بخل به، والذي استغنى به كذلك عن الله وهداه.. (وما يغني عنه ماله إذا تردى).. والتيسير للشر والمعصية من التيسير للعسرى، وإن أفلح صاحبها في هذه الأرض ونجا.. وهل أعسر من جهنم؟ وإنها لهي العسرى!.
{إِنَّ عَلَيْنَا للهدى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ والأولى (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الأشقى (15) الَّذِي كَذَّبَ وتولى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى (18) وَمَا لِأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى (19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى (20)}
هكذا ينتهي المقطع الأول في السورة. وقد تبين طريقان ونهجان للجموع البشرية في كل زمان ومكان. وقد تبين أنهما حزبان ورايتان مهما تنوعت وتعددت الأشكال والألوان. وأن كل إنسان يفعل بنفسه ما يختار لها! فييسر الله له طريقه: إما إلى اليسرى وإما إلى العسرى.
فأما المقطع الثاني فيتحدث عن مصير كل فريق. ويكشف عن نهاية المطاف لمن يسره لليسرى، ومن يسره للعسرى. وقبل كل شيء يقرر أن ما يلاقيه كل فريق من عاقبة ومن جزاء هو عدل وحق، كما أنه واقع وحتم. فقد بين الله للناس الهدى، وأنذرهم نارا تلظى: {إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى}..
لقد كتب الله على نفسه- فضلا منه بعباده ورحمة- أن يبين الهدى لفطرة الناس ووعيهم. وأن يبينه لهم كذلك بالرسل والرسالات والآيات، فلا تكون هناك حجة لأحد، ولا يكون هناك ظلم لأحد: {إن علينا للهدى}..
واللمسة الثانية هي التقرير الجازم لحقيقة السيطرة التي تحيط بالناس، فلا يجدون من دونها موئلا: {وإن لنا للآخرة والأولى}.. فأين يذهب من يريد أن يذهب عن الله بعيدا؟!
وتفريعا على أن الله كتب على نفسه بيان الهدى للعباد، وأن له الآخرة والأولى داري الجزاء والعمل. تفريعا على هذا يذكرهم أنه أنذرهم وحذرهم وبين لهم: {فأنذرتكم نارا تلظى}.. وتتسعر.. هذه النار المتسعرة {لا يصلاها إلا الأشقى}.. أشقى العباد جميعا. وهل بعد الصلي في النار شقوة؟ ثم يبين من هو الأشقى. إنه: {الذي كذب وتولى}.. كذب بالدعوة وتولى عنها. تولى عن الهدى وعن دعوة ربه له ليهديه كما وعد كل من يأتي إليه راغبا.
{وسيجنبها الأتقى}.. وهو الأسعد في مقابل الأشقى.. ثم يبين من هو الأتقى: {الذي يؤتي ماله يتزكى}.. الذي ينفق ماله ليتطهر بإنفاقه، لا ليرائي به ويستعلي. ينفقه تطوعا لا ردا لجميل أحد، ولا طلبا لشكران أحد، وإنما ابتغاء وجه ربه خالصا.. ربه الأعلى..
{وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}..
ثم ماذا؟ ماذا ينتظر هذا {الأتقى}، الذي يؤتي ماله تطهرا، و{ابتغاء وجه ربه الأعلى}؟ إن الجزاء الذي يطالع القرآن به الأرواح المؤمنة هنا عجيب. ومفاجئ. وعلى غير المألوف.
{ولسوف يرضى}.
إنه الرضى ينسكب في قلب هذا الأتقى. إنه الرضى يغمر روحه. إنه الرضى يفيض على جوارحه. إنه الرضى يشيع في كيانه. إنه الرضى يندي حياته..
ويا له من جزاء! ويا لها من نعمة كبرى!
{ولسوف يرضى}.. يرضى بدينه. ويرضى بربه. ويرضى بقدره. ويرضى بنصيبه. ويرضى بما يجد من سراء وضراء. ومن غنى وفقر. ومن يسر وعسر. ومن رخاء وشدة. يرضى فلا يقلق ولا يضيق ولا يستعجل ولا يستثقل العبء، ولا يستبعد الغاية.. إن هذا الرضى جزاء- جزاء أكبر من كل جزاء- جزاء يستحقه من {وَلَسَوْفَ يرضى (21)}
يبذل له نفسه وماله- من يعطي ليتزكى. ومن يبذل ابتغاء وجه ربه الأعلى.
إنه جزاء لا يمنحه إلا الله. وهو يسكبه في القلوب التي تخلص له، فلا ترى سواه أحدا.
{ولسوف يرضى}.. يرضى وقد بذل الثمن. وقد أعطى ما أعطى..
إنها مفاجأة في موضعها هذا. ولكنها المفاجأة المرتقبة لمن يبلغ ما بلغه الأتقى:
{الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى..} اهـ.